الثلاثاء 2 رجب 1436 هـ
مجلة البيان | بلغوا عني ولو آية
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَاَ}
05/02/2013 د. عبدالعزيز كامل
العدد : 308
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أثارت الثورات العربية جولة جديدة من (حرب الأفكار) كان موضوعها الأساس – ولا يزال - تحكيم الشريعة، حيث استعرت تلك الحرب سياسياً وثقافياً وإعلامياً، وبخاصة في مصر، والمتوقع أن تلك الحرب الفكرية ستكون لها تداعيات صدامية بين الإسلاميين والعلمانيين قد تبدو ذات أبعاد بعيدة عن (معركة الشريعة)، لكنها في الحقيقة تؤول إليها وتتفرع عنها.
الإشكال الكبير هو أن جماهير غفيرة من الشعوب كانت ولا تزال مغيَّبة عن حقيقة هذه المعركة، دون أن تعرف أنها معركة عقيدة وهوية ضمن «صراع الثقافات» الذي سيدشن به (صراع الحضارات) في جزئه الخاص بالأمة الإسلامية، حيث إن جوهر المنازلة بين المسلمين والغرب محوره الشريعة وما تتأسس عليه من عقيدة.
إن جمهوراً كبيراً من المنتسبين للأمة انحازوا عن غفلة أو جهل إلى المعسكر المعادي للإسلام والشريعة – كما تظهر ذلك نتائج الانتخابات؛ لذلك فإن حرب الأفكار ستطول، وسيحتاج أهل الإيمان فيها إلى سلاح ماضٍ، وليس هناك سلاح أمضى من القرآن في مواجهة أعداء الشريعة كما قال الله تعالى: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52].
وإذا كان دفع اعتداء أعداء الشريعة بالقرآن ضرورياً على المدى القريب، من أجل كشفهم وتعريتهم وإظهار حقيقة أمرهم؛ فإن الأهم هو استعادة مكانة الشريعة في قلوب وعقول الملايين المضللة لإظهار خطر الخروج عليها وعدم التحاكم إليها، خاصة أن هناك أجيالاً نشأت في ظل عصور ضمور قضية الشريعة، حيث لم تسمع عنها إلا قليلاً، مع كونها تحب الإسلام، لكنها مع ذلك تنحاز إلى صفوف أعداء الشريعة من المنافقين والمرتدين، كما دلت على ذلك تطورات الثورات.
إنها دعوة إلى تكثيف الجهد الدعوي وتوجيهه نحو إحياء قضية الشريعة في وجدان قطاع ليس باليسير من كيان الأمة لا يزال يظن أن إسلامه بخير، مع وقوفه في خندق أعداء الشريعة الظاهرين والمتسترين.
والآية التي نحن بصدد الحديث عنها، وهي قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، هذه الآية – مع مثيلات لها – تحدد مفاهيم مهمة لا يسع الساعون إلى تحكيم الشريعة اليوم والداعون إليها أن يجهلوها أو يتجاهلوها أو يهملوا في إيصالها؛ فتلك المفاهيم هي من صلب أصول الإيمان، والعمل على استذكارها واستحضارها واستصحاب معانيها ثم نشرها؛ من مهمات الاشتغال بالسياسة والدعوة معاً في تلك المرحلة التأسيسية التغييرية المهمة من مسيرة الأمة.
وقد مهد النظم القرآني – قبل الآية المعنون بها - للأمر باتباع الشريعة ونبذ ما يخالفها بحكاية ما سبق أن جرى من بني إسرائيل ثم ما جرى عليهم من جراء عدم الثبات على التحاكم إلى شريعتهم، فقال الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْـحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16 ) وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية: 16-17]، ومعنى الآية – كما يستخلص من تفسير ابن عاشور لها – أن بني إسرائيل قد أنعم الله عليهم بكتاب فيه شريعة تصلح دينهم ودنياهم، ومكّنهم من حكم أنفسهم، ووسّع عليهم من الأرزاق بما يغنيهم عن الاحتياج لغيرهم، وجعلهم بكل ما سبق أفضل العالمين في زمانهم، وضمن لهم مع كل ذلك الحفاظ على شأنهم من خلال منهاج حق يشتمل على البراهين والدلائل التي حملها علماؤهم، لكنهم مع كل هذا دبَّ الخلاف بينهم، رغم وجود العلم والعلماء فيهم، فكان اختلافهم عن مكابرة وعناد، لا عن جهل أو تأويل، فهو اختلاف تحاسد وتجاحد ظهرت آثاره في رفض بعضهم الحق الذي عليه البعض الآخر. وهذه الآية تحكي أحوال مجتمعات كثيرة قديمة ومعاصرة انتسبت لهذه الأمة لكنها اتبعت سنن السابقين من الأمم حذو القذة بالقذة، قال ابن كثير في تفسيرها: «وهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم وأن تقصد نهجهم».
لقد جاء الأمر الإلهي المحتم بعد ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم – والمقصود أمته – بأن تكون هذه الشريعة هي وحدها المرجع المتبع، والمصدر المتخذ، فقال سبحانه:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَاَ}
وهذه العبارة على وجازتها، تحوي معاني عميقة سنقف مع المفسرين في أبرزها وأوجزها:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ} ثم.. للتراخي، وباستعمال ضمير العظمة للإشارة إلى أن ما أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعة أفضل مما أوتيه موسى عليه السلام، صاحب أكبر شريعة قبل الإسلام؛ فالجاعل هنا هو الله العظيم الذي أودع في شريعة من عظمته وحكمته وآثار أسمائه الحسنى كلها - سبحانه - ما لا يخفى إلا على مكفوفي البصيرة، فالمعنى: جعلناك على شريعة عظيمة جديرة بالتعظيم والاتباع، والتعبير بـ (على) للاستعلاء المجازي، أي: مكّناك منها وبها، وفقهناك فيها، وثبتناك عليها.
والشريعة في هذا السياق ؛ جاءت بالمعنى العام المرادف للدين والملة المتبعة، فهي – كما قال القرطبي -: «ما شرع الله لعباده من الدين». والدين – كما في حديث جبريل - يشمل الإيمان والإسلام والإحسان، وهذه الثلاثة تشمل العقائد والأحكام والسلوك، ولذلك قال (فاتبعها) أي: فالتزم بما فيها من معاني ملة الإسلام ومبانيها.
وهذا المعنى أيضاً هو المفهوم من اللغة، فالشريعة من (الشرع)، وهو لغة: الطريق الممهد للسير، والموصل للغرض، ولذلك يسمى الطريق شارعاً؛ لأنه يوصل إلى المراد بيسر، والشريعة كذلك توصل بيسر إلى الحق – كما قال قتادة -، وكذلك يسمى الماء الجاري الذي يرده الناس (شريعة)، وقد قال الراغب الأصفهاني في (مفردات القرآن)، في مادة (شرع): «استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية، تشبيهاً بشريعة الماء، ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير». فكذلك الشريعة يَرِد منها الناس رحمات ربهم فتتطهر قلوبهم وتنعم معيشتهم وتتقدس نفوسهم بكلماته ووحيه المنزّل، ولذلك وصفت بأنها (شريعة من الأمر)، يعني الوحي، فهي تستند إلى الدلائل والحجج الإلهية بخلاف الشرائع الأرضية المستندة إلى الأهواء والمحدثات البشرية.
ثم قال تعالى:{فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بالدوام والثبات على اتباع الشريعة، فلا يتصور منه إلا اتباعها، والتكليف من بعده لأمته بأن تنزل على هديها وتلتزم أحكامها، ثم جاء الخطاب له رضي الله عنه – والمراد أمته – بالنهي عن اتباع غيرها، لأن اتباع نهج ما؛ يجعله ديناً عند متبعه، ولذلك كان الهوى ديناً يتبع، بل إلهاً يُعبد، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].
ومن خلال استقراء الآيات المشابهة والمفسِّرة لهذه الآية المتعلقة بالأمر الإلهي بالتحاكم إلى الشريعة والحكم بها لإقامة الدين؛ نستطيع استخراج محكمات اعتقادية مهمة لا يسع الحكام أو المحكومون الجهل بها أو الإعراض عنها، ولا يليق بالمنافحين عن الشريعة؛ بل لا يحل لهم الاستخفاء بها أو الاستخزاء منها أو الاستخفاف بأثرها في قمع المجادل وتبصير الجاهل. ومن أبرز هذه الأحكام الاعتقادية:
* التحاكم إلى الشريعة.. تحقيق للتوحيد وإذعان للعبودية
قال تعالى {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام: 114]، فمن يعدل عن الشريعة إلى غيرها، يعدل بالله غيره، قال الطبري في تفسيرها: «قل يا محمد لمن يعدل بالله غيره: ليس لي أن أتعدى حكمه وأتجاوزه لأنه لا حكم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً، يعني بيّناً فيه الحكم الذي تختصمون فيه»، فلا عبودية تتحقق لمن لم يتحاكم بقلبه لحكم الله ويسلم له، قال ابن القيم – رحمه الله - في معنى العبودية: «أن يشهد العبد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، وأن الخلق مقهورون تحت قبضته»[1].
* لا رسوخ في الإسلام إلا بتسليم.. ولا تسليم إلا بالتحاكم إلى الشريعة
قال تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، قال ابن كثير: «يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكِّم الرسول في جميع الأمور، فما حكم به هو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً».. وهذه هي حقيقة معنى الإسلام. قال صاحب متن الطحاوية: «ولا يثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام». وقال شارحها: «ولا شك أن من لم يسلم للرسول نقص توحيده، فإنه يقول برأيه وهواه ويقلد ذا رأي وهوى بغير هدى، فينقص توحيده بقدر خروجه عما جاء به الرسول، فإنه قد اتخذ في ذلك إلهاً غير الله»[2]. ومن لم يرضَ بالشريعة، لم يرضَ بدين الإسلام ولم يذق طعم الإيمان، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبحمد رسولاً)[3]، يقول ابن القيم عن هذا الرضا: «وأما الرضا بدين الله فإذا قال أو حكم أو نهى رضي كل الرضا ولم يبق في قلبه حرج من حكمه وسلّم له تسليماً، ولو كان مخالفاً لمراد نفسه أو هواها أو قول مقلده وشيخه وطائفته»[4].
* الشريعة تقام في القلوب قبل أن تقام على الأرض
ذلك لأن إقامة أحكام الله في الأرض فرع عن استقامة القلب لله وتسليمه لحكمه، وهذا هو الفرق بين (الحكم) التنفيذي و(التحاكم) القلبي، فقد تطبق بعض أحكام الشريعة عن غير إيمان بها لغرض أو مصلحة ظاهرة، أو لجلب مدح أو دفع مذمة؛ وقد يسقط إثم الحكم ببعض الشريعة - في حال الإيمان القلبي بها - مع العجز عنها أو الجهل بها أو الإكراه على مخالفتها. لكن التحاكم القلبي إليها لا يسقط بأي حال؛ لأن هذا هو جوهر (الإسلام) ومقتضى (الإيمان)، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا} [النساء: 60]، وحكم الطاغوت هو – كما قال الطبري – «كل ذي طغيان على الله، فعُبد من دونه، إما بقهر لمن عبده، وإما بطاعة له ممن عبده، إنساناً كان ذلك المعبود أو شيطاناً أو وثناً أو صنماً أو كائناً من كان من شيء». وقال السعدي في تفسير الآية: «إن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله فهو كاذب في ذلك الزعم».
* لا تحاكم إلا لوحي أو ما أصله الوحي
فمصادر التشريع الواجب الحكم بها بعد التحاكم إليها؛ هي كتاب محكم أو سنة صحيحة، أو ما يؤخذ منهما ويرد إليهما من إجماع أو قياس. والحكم (بما أنزل الله) لا يراد به إلا ذلك، فمن لوازم الشهادتين النزول على ما أوحاه الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْـمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، قال الشافعي - رحمه الله -: «فأعلمَ اللهُ الناس في هذه الآية أن دعاءهم إلى رسول الله ليحكم بينهم، دعاء إلى حكم الله؛ لأن الحاكم بينهم رسول الله، وإذا سلموا لحكم رسول الله فإنما سلموا لحكمه بفرض من الله، وأنه أعلمهم أن حكمه حكمه»[5].
* التحاكم لغير الشريعة وقوع في الشرك الأكبر
وذلك إن كان عن علم وقصد، فقد قسم علماء العقيدة وأصول الدين الشرك إلى ثلاثة أنواع:
- الأول: شرك في العبادة والتألّه.
- الثاني: شرك في الإيمان والقبول.
- الثالث: شرك في الطاعة والانقياد[6].
والنوع الأخير هو النوع المشار إليه في قوله تعالى : {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا }[الكهف: 26]، فهي نفي للشريك. وفي قراءة (ولا تشرك في حكمه أحداً) وهي نهي عن الشريك. فالآية - كما بين ابن كثير في تفسيرها - تنزّه الله تعالى عن اتخاذ شريك في الحكم - على اختلاف القراءتين –.
* التوحيد يتحقق بالإقرار بتفرد الله بالحكم شرعاً وقدراً
فكما تفرد الله بالأحكام القدرية الكونية، فقد تفرد بالحكم الشرعي فيما يحل وما يحرم، قال تعالى: { إنِ الْـحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ }[يوسف: 40]، فهذه الكلمة التي جاءت على لسان يوسف عليه السلام تماثل وتساوي في مضمونها كلمة التوحيد، فهي تثبت الحكم القدري من التدبير والمشيئة والملك كله لله وحده، ثم تحض على الطاعة الكاملة له، قال ابن عاشور في تفسيرها: »جملة} إنِ الْـحُكْمُ إلاَّ لِلَّه {إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم بأنها لا حكم لها فيما زعموا أنه من حكمها وتصرفها، وجملة { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ } انتقال من أدلة إثبات انفراد الله بالإلهية والوحدانية، إلى التعليم بامتثال أمره ونهيه؛ لأن ذلك نتيجة لإثبات الإلهية والوحدانية له، فهي بيان لجملة { إنِ الْـحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ } من حيث ما فيها من معنى الحكم، وجملة} ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ {خلاصة لما تقدم من الاستدلال«.
* التكليف بالحكم بالشريعة والتحاكم إليها ليس خاصاً بالحكام
فهذا واجب الرعاة والرعية معاً؛ فخطاب التكليف بالشريعة حكماً وتحاكماً فرض على كل مكلف بحسبه، إذ إن كلاً منهم استرعاه الله رعيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)[7][8]، فكل من استرعاه الله رعية فهو مأمور بأن يحكم فيها بما أنزل الله على حسب ما أمره الله، قال تعالى : { وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [النساء: 58]، قال القرطبي في تفسير هذه الآية» :هذا خطاب للولاة والأمراء والحكام، ويدخل في ذلك المعنى جميع الخلق«، وذكر الحديث السابق، ثم قال: » فجعل في هذه الأحاديث جميع هؤلاء رعاة وحكاماً على مراتبهم، وكذلك العالم حاكم إذا أفتى حكم وقضى وفصل بين الحلال والحرام والفرض والندب والصحة والفساد، فجميع ذلك أمانة تؤدى، وحكم يقضى« .
* وجوب الحكم بالشريعة ليس من مسائل الخلاف
فالادعاء بأن هناك اختلافاً بين أهل العلم في ترك الحكم بما أنزل الله، وهل هذا الترك كفر أكبر أم أصغر؛ هو ادعاء كاذب، بل الصحيح أن في الأمر تفصيلاً، فإن الحاكم إذا كان تحاكمه للشريعة في الأصل، لكنه خالف في بعض مسائلها عن هوى ونحوه دون جحود أو استحلال؛ فهذا الذي يقال إن كفره كفر أصغر – كما نُسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنهما - أما إذا جحد بها أو استحل الحكم بغيرها أو بدَّلها بشريعة أخرى وضعية أو منسوخة؛ فإن كفره هو الكفر الأكبر. قال ابن القيم بعد أن نقل أقوال العلماء وآراءهم في معنى قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة: ٤٤] »والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفر الأصغر والأكبر، بحسب حال الحاكم، فإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة وعدل عنه عصياناً مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهو كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب وأنه مخيّر فيه مع تيقنه أنه حكم الله؛ فهذا كفر أكبر. وإن جهله أو أخطأه فهو مخطئ وله حكم المخطئين«[9].
* التبديل العام لحكم الشريعة لا يكون إلا جحوداً
وحقيقة التبديل – كما في مختار الصحاح) مادة بدل – ( هي: تغيير الشيء وإن لم يأت ببدله. فمجرد تغييب الشريعة يُعد تبديلاً لها، فما الحال بوضع غيرها محلها؟ والتبديل الكامل للشريعة لا يتصور أن يحدث من مؤمن بها مسلم بكونها حقاً، قال تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [آل عمران: ٣٨] ، قال ابن كثير في معرض كلامه عن إحلال التتار شريعة جنكيزخان المعروفة بـ (السياق)محل شريعة الإسلام: »ومن ترك الشرع المنزل على خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة؛ كَفَر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين«[10]. وقال ابن تيمية: الإنسان متى حلَّل الحرام المجمع عليه أو حرَّم الحلال المجمع عليه أو بدَّل الشرع المجمع عليه؛ كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء«[11].
* التحاكم إلى غير الشريعة من النفاق الأكبر
وذلك إن كان عن علم وقصد، وبه يخرج المرء عن الملة، قال تعالى عن المنافقين { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْـمُؤْمِنِينَ (٧٤ )وَإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (٨٤) وَإن يَكُن لَّهُمُ الْـحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٩٤) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ }[النور: ٧٤ - ٠٥]، قال ابن تيمية» من النفاق ما هو أكبر، يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أبي وغيره، بأن يُظهر تكذيب الرسول أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرَّة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدواً لله ورسوله«[12].
وما أكثر هؤلاء في أيامنا هذه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
:: مجلة البيان العدد 308 ربيع الآخر 1434هـ، مارس 2013م.
[1] مدارج السالكين لابن القيم (ا/410).
[2] شرح الطحاوية بتحقيق أحمد شاكر ص 151.
[3] أخرجه مسلم برقم 56.
[4] مدارج السالكين (2/118).
[5] الرسالة للإمام الشافعي ص 84.
[6] فتاوى ابن تيمية (1/97).
[7] تفسير القرطبي للآية.
[8] أخرجه مسلم (1827).
[9] مدارج السالكين 1/337.
[10] البداية والنهاية 13/ 228.
[11] الفتاوى 3/ 267.
[12] الفتاوى 28/ 434.
تعليق